فصل: تفسير الآيات رقم (37- 39)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 153‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏سيقول الذين أشركوا‏}‏ إذا لزمتهم الحجة وتيقَّنوا باطل ما هم عليه‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرَّمنا من شيء كذلك كذَّب‏}‏ جعلوا قولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله ما أشركنا‏}‏ حجَّةً لهم على إقامتهم على الشِّرك، وقالوا‏:‏ إنَّ الله رضي منَّا ما نحن عليه وأراده منَّا، وأمرنا به، ولو لم يرضه لحال بيننا وبينه، ولا حجة لهم في هذا؛ لأنَّهم تركوا أمر الله وتعلَّقوا بمشيئته، وأمرُ الله بمعزلٍ عن إرادته؛ لأنَّه مريدٌ لجميع الكائنات، غير آمرٍ بجميع ما يريد، فعلى العبد أن يحفظ الأمر ويتَّبعه، وليس له أن يتعلَّق بالمشيئة بعد ورود الأمر، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏}‏ أَيْ‏:‏ كما كذَّبك هؤلاء كذَّب كفَّار الأمم الخالية أنبياءهم، ولم يتعرَّض لقولهم‏:‏ ‏{‏لو شاء الله‏}‏ بشيءٍ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا‏}‏ من كتابٍ نزل في تحريم ما حرَّمتم ‏{‏إن تتبعون إلاَّ الظن‏}‏ ما تتَّبعون فيما أنتم عليه إلاَّ الظَّنَّ لا العلم واليقين ‏{‏وإن أنتم إلاًّ تخرصون‏}‏ وما أنتم إلاَّ كاذبين‏.‏

‏{‏قل فللَّه الحجة البالغة‏}‏ بالكتاب والرَّسول والبيان ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ إخبار عن تعلُّق مشيئة الله تعالى بكفرهم، وأنَّ ذلك حصل بمشيئته، إذ لو شاء الله لهداهم‏.‏

‏{‏قل هلم شهداءكم‏}‏ أَيْ‏:‏ هاتوا شهداءكم وقرِّبوهم، وباقي الآية ظاهر‏.‏

‏{‏قل تعالوا أتل ما حرَّم ربكم عليكم‏}‏ أَقرأ عليكم الذي حرَّمه الله، ثمَّ ذكر فقال‏:‏ ‏{‏ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً‏}‏ وأوصيكم بالوالدين إحساناً ‏{‏ولا تقتلوا أولادكم‏}‏ من أولادكم من مخافة الفقر ‏{‏ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ يعني‏:‏ سر الزِّنا وعلانيته ‏{‏ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحق‏}‏ يريد‏:‏ القصاص‏.‏

‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلاَّ بالتي هي أحسن‏}‏ وهو أن يصلح ماله ويقوم فيه بما يثمره، ثمَّ يأكل بالمعروف إن احتاج إليه ‏{‏حتى يبلغ أشده‏}‏ أَي‏:‏ احفظوه عليه حتى يحتلم ‏{‏وأوفوا الكيل‏}‏ أتِمُّوه من غير نقصٍ ‏{‏والميزان‏}‏ أَيْ‏:‏ وزن الميزان ‏{‏بالقسط‏}‏ بالعدل لا بخسٍ ولا شططٍ ‏{‏لا نُكَلِّفُ نفساً إلاَّ وسعها‏}‏ إلاَّ ما يسعها ولا تضيق عنه، وهو أنَّه لو كلَّف المعطي الزِّيادة لضاقت نفسه عنه، وكذلك لو كلَّف الآخذ أن يأخذ بالنُّقصان ‏{‏وإذا قلتم فاعدلوا‏}‏ إذا شهدتم أو تكلَّمتم فقولوا الحقَّ ‏{‏ولو‏}‏ كان المشهود له أو عليه ‏{‏ذا القربى‏}‏‏.‏

‏{‏وأنًّ هذا‏}‏ ولأنَّ هذا ‏{‏صراطي مستقيماً‏}‏ يريد‏:‏ ديني دينُ الحنيفيَّة أقومُ الأديان ‏{‏فاتبعوه ولا تتبعوا السبل‏}‏ اليهوديَّة، والنصرانيَّة، والمجوسية، وعبادة الأوثان ‏{‏فتفرَّق بكم عن سبيله‏}‏ فتضلَّ بكم عن دينه ‏{‏ذلكم‏}‏ الذي ذكر ‏{‏وصَّاكم‏}‏ أمركم به في الكتاب ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ كي تتقوا السُّبل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 162‏]‏

‏{‏ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏‏}‏

‏{‏ثم آتينا‏}‏ أَيْ‏:‏ ثمَّ أُخبركم أنَّا آتينا ‏{‏موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن‏}‏ أَيْ‏:‏ على الذي أحسنه موسى من العلم والحكمة، وكتب الله المتقدِّمة، أَيْ‏:‏ علمه، ومعنى‏:‏ ‏{‏تماماً‏}‏ على ذلك‏:‏ أَيْ‏:‏ زيادة عليه حتى تمَّ له العلم بما آتيناه ‏{‏وتفصيلاً‏}‏ أَيْ‏:‏ آتيناه للتَّمام والتفصيل، وهو البيان ‏{‏لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون‏}‏ لكي يُؤمنوا بالبعث ويُصدِّقوا بالثَّواب والعقاب‏.‏

‏{‏وهذا كتابٌ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏أنزلناه مبارك‏}‏ مضى تفسيره في هذه السُّورة‏.‏

‏{‏أن تقولوا‏}‏ لئلا تقولوا‏:‏ ‏{‏إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى ‏{‏وإن كنَّا عن دراستهم لغافلين‏}‏ وما كنَّا إلاَّ غافلين عن تلاوة كتبهم، والخطابُ لأهل مكَّة، والمرادُ‏:‏ إثبات الحجَّة عليهم بإنزال القرآن على محمَّد عليه السَّلام كيلا يقولوا يوم القيامة‏:‏ إنَّ التَّوراة والإِنجيل أُنزلا على طائفتين من قبلنا، وكنَّا غافلين عمَّا فيهما، وقوله‏:‏

‏{‏وصدف عنها‏}‏ أَيْ‏:‏ أعرض‏.‏

‏{‏هل ينظرون‏}‏ إذا كذَّبوك ‏{‏إلاَّ أن تأتيهم الملائكة‏}‏ عند الموت لقبض أرواحهم، وذكرنا معنى ‏{‏ينظرون‏}‏ في سورة البقرة ‏{‏أو يأتي ربك‏}‏ أَيْ‏:‏ أمره فيهم بالقتل ‏{‏أو يأتي بعض آيات ربك‏}‏ يعني‏:‏ طلوع الشَّمس من مغربها، والمعنى‏:‏ إنَّ هؤلاء الذين كذَّبوك إمَّا أن يموتوا فيقعوا في العذاب، أو يؤمر فيهم بالسَّيف، أو يمهلون قدر مدَّة الدُّنيا فيتوالدون ويتنعَّمون فيها، فإذا ظهرت أمارات القيامة ‏{‏لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً‏}‏ قدَّمت طاعةً وهي مؤمنةٌ ‏{‏قل انتظروا‏}‏ أحد هذه الأشياء ‏{‏إنا منتظرون‏}‏ بكم أحدها‏.‏

‏{‏إنَّ الذين فارقوا دينهم‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنَّصارى، أخذوا ببعض ما أُمروا، وتركوا بعضه، كقوله إخباراً عنهم‏:‏ ‏{‏نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض‏}‏ ‏{‏وكانوا شيعاً‏}‏ أحزاباً مختلفة‏.‏ بعضهم يُكفِّر بعضاً ‏{‏لست منهم في شيء‏}‏ يقول‏:‏ لم تؤمر بقتالهم، فلمَّا أُمر بقتالهم نُسخ هذا‏.‏

‏{‏من جاء بالحسنة‏}‏ من عمل من المؤمنين حسنةً ‏{‏فله عشر أمثالها‏}‏ كتبت له عشر حسناتٍ ‏{‏ومَنْ جاء بالسيئة‏}‏ الخطيئة ‏{‏فلا يجزى إلاَّ مثلها‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاءً مثلها لا يكون أكثر منها ‏{‏وهم لا يظلمون‏}‏ لا ينقص ثواب أعمالهم‏.‏

‏{‏قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً‏}‏ أَيْ‏:‏ عرَّفني ديناً ‏{‏قيماً‏}‏ مستقيماً‏.‏

‏{‏قل إنَّ صلاتي ونسكي‏}‏ عبادتي من حجِّي وقرباني ‏{‏ومحياي ومماتي لله رب العالمين‏}‏ أَيْ‏:‏ هو يحييني وهو يميتني، وأنا أتوجَّه بصلاتي وسائر المناسك إلى الله، لا إلى غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 165‏]‏

‏{‏لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏وبذلك أمرت‏}‏ بذلك أوحي إليَّ ‏{‏وأنا أول المسلمين‏}‏ من هذه الأمَّة‏.‏

‏{‏قل أغير الله أبغي رباً‏}‏ سيِّداً وإلهاً ‏{‏وهو ربُّ كلِّ شيء‏}‏ مالكه وسيِّده ‏{‏ولا تكسب كلُّ نفس إلاَّ عليها‏}‏ لا تجني نفسٌ ذنباً إلاَّ أُخذت به ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ يعني‏:‏ الوليد بن المغيرة، كان يقول‏:‏ اتَّبعوا سبيلي أحمل أوزاركم‏.‏ ‏[‏فأنزل الله‏]‏‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرةٌ وِزرَ أُخرى‏}‏ لا يحمل أحدٌ جناية غيره حتى لا يُؤَاخذ بها الجاني‏.‏

‏{‏وهو الذي جعلكم‏}‏ يا أُمَّةَ محمَّدٍ ‏{‏خلائف‏}‏ الأمم الماضية في ‏{‏الأرض‏}‏ بأنْ أهلكهم وأورثكم الأرض بعدهم ‏{‏ورفع بعضكم فوق بعض درجات‏}‏ بالغنى والرِّزق ‏{‏ليبلوكم فيما آتاكم‏}‏ ليختبركم فيما رزقكم ‏{‏إنَّ ربك سريع العقاب‏}‏ لأعدائه ‏{‏وإنه لغفور‏}‏ لأوليائه ‏{‏رحيم‏}‏ بهم‏.‏

سورة الأعراف

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏المص‏}‏ أنا الله أعلم وأُفصِّل‏.‏

‏{‏كتاب‏}‏ أَيْ‏:‏ هذا كتابٌ ‏{‏أنزل إليك‏}‏ من ربَّك ‏{‏فلا يكن في صدرك حرج منه‏}‏ فلا يضيقنَّ صدرك بإبلاغ ما أرسلت به ‏{‏لتنذر به‏}‏ أَيْ‏:‏ أُنزل لتنذر به النَّاس ‏{‏وذكرى للمؤمنين‏}‏ مواعظ للمصدِّقين‏.‏

‏{‏اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏ولا تتبعوا من دونه أولياء‏}‏ لا تتخذوا غير الله أولياء ‏{‏قليلاً ما تذكرون‏}‏ قليلاً يا معشر المشركين اتَّعاظكم‏.‏

‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ يعني‏:‏ أهلها ‏{‏فجاءها بأسنا‏}‏ عذابنا ‏{‏بياتاً‏}‏ ليلاً ‏{‏أو هم قائلون‏}‏ نائمون نهاراً‏.‏ يعني‏:‏ جاءهم بأسنا وهم غير متوقِّعين له‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 11‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فما كان دعواهم‏}‏ دعاؤهم وتضرُّعهم ‏{‏إذ جاءهم بأسنا إلاَّ أن‏}‏ أقرُّوا على أنفسهم بالشِّرك و‏{‏قالوا إنا كنا ظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏فلنسئلنَّ الذين أرسل إليهم‏}‏ نسأل الأمم ماذا عملوا فيما جاءت به الرُّسل، ونسأل الرُّسل هل بلَّغوا ما أُرسلوا به‏.‏

‏{‏فلنقصنَّ عليهم بعلم‏}‏ لنخبرنَّهم بما عملوا بعلمٍ منَّا ‏{‏وما كنا غائبين‏}‏ عن الرُّسل والأمم ما بلَّغت وما ردَّ عليهم قومهم‏.‏

‏{‏والوزن يومئذ‏}‏ يعني‏:‏ وزن الأعمال يوم السُّؤال الذي ذُكر في قوله‏:‏ ‏{‏فلنسألنَّ‏}‏ ‏{‏الحق‏}‏ العدل، وذلك أنَّ أعمال المؤمنين تتصوَّر في صورةٍ حسنةٍ، وأعمال الكافرين في صورةٍ قبيحة، فتوزن تلك الصُّورة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون‏}‏ النَّاجون الفائزون، وهم المؤمنون‏.‏

‏{‏ومَنْ خفَّت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم‏}‏ صاروا إلى العذاب ‏{‏بما كانوا بآياتنا يظلمون‏}‏ يجحدون بما جاء به محمَّد عليه السَّلام‏.‏

‏{‏ولقد مكنَّاكم في الأرض‏}‏ ملَّكناكم فيما بين مكَّة إلى اليمن، وإلى الشَّام‏.‏ يعني‏:‏ مشركي مكَّة ‏{‏وجعلنا لكم فيها معايش‏}‏ ما تعيشون به من الرِّزق والمال والتجارة ‏{‏قليلاً ما تشكرون‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّكم غير شاكرين لما أنعمت عليكم‏.‏

‏{‏ولقد خلقناكم‏}‏ يعني‏:‏ آدم ‏{‏ثم صوَّرناكم‏}‏ في ظهره *** الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 18‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قال ما منعك إلا تسجد‏}‏ ‏"‏ لا ‏"‏ زائدة‏.‏ معناها‏:‏ ما منعك أن تسجد‏؟‏‏!‏ وهو سؤالُ التَّوبيخ والتَّعنيف ‏{‏قال أنا خير منه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ معناه‏:‏ منعني من السُّجود له أنِّي خيرٌ منه إذ كنتُ ناريَّاً، وكان طينيَّاً، فترك الأمر وقاس، فعصى‏.‏

‏{‏قال فاهبط منها‏}‏ فانزل من الجنَّة‏.‏ وقيل‏:‏ من السَّماء ‏{‏فما يكون لك أن تتكبر فيها‏}‏ عن أمري وتعصيني ‏{‏فأخرج إنك من الصاغرين‏}‏ الأذلاء بترك الطَّاعة‏.‏

‏{‏قال انظرني‏}‏ أمهلني ‏{‏إلى يوم يبعثون‏}‏ يريد‏:‏ النَّفخة الثَّانية‏.‏

‏{‏قال إنك من المنظرين‏}‏‏.‏

‏{‏قال‏:‏ فبما أغويتني‏}‏ يريد‏:‏ فبما أضللتني، أيْ‏:‏ بإغوائك إيَّاي ‏{‏لأقعدَّن لهم صراطك المستقيم‏}‏ على الطَريق المستقيم الذي يسلكونه إلى الجنَّة، بأن أُزيِّن لهم الباطل‏.‏

‏{‏ثم لآتينَّهم من بين أيديهم‏}‏ يعني‏:‏ آخرتهم التي يردون عليها، فَأُشكِّكهم فيها ‏{‏ومن خلفهم‏}‏ دنياهم التي يُخَلِّفونها، فأُرغِّبهم فيها ‏{‏وعن أيمانهم‏}‏ أُشبِّه عليهم أمر دينهم ‏{‏وعن شمائلهم‏}‏ أُشهِّي لهم المعاصي‏.‏

‏{‏قال اخرج منها‏}‏ من الجنَّة ‏{‏مذؤوماً‏}‏ مذموماً بأبلغ الذَّمِّ ‏{‏مدحوراً‏}‏ مطروداً ملعوناً ‏{‏لمن تبعك منهم‏}‏ من أولاد آدم ‏{‏لأَمْلأَنَّ جهنم منكم‏}‏ يعني‏:‏ من الكافرين وقرنائهم من الشَّياطين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏ فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏ويا آدم اسكن‏}‏ سبق تفسيره في سورة البقرة‏.‏

‏{‏فوسوس لهما الشيطان‏}‏ أَيْ‏:‏ حدَّث لهما في أنفسهما ‏{‏ليبدي لهما‏}‏ هذه اللام لام العاقبة، وذلك أنَّ عاقبة تلك الوسوسة أدَّت إلى أن بدت لهما سوآتهما، يعني‏:‏ فروجهما بتهافت اللَّباس عنهما، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ما ووري‏}‏ أَيْ‏:‏ سُتر ‏{‏عنهما من سوآتهما‏}‏ ‏{‏وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة‏}‏ أَيْ‏:‏ عن أكلها ‏{‏إلاَّ أن تكونا‏}‏ ‏"‏ لا ‏"‏ ها هنا مضمرة، أَيْ‏:‏ إلاَّ أن لا تكونا ‏{‏ملكين‏}‏ يبقيان ولا يموتان، كما لا تموت الملائكة‏.‏ يدلُّ على هذا المعنى قوله‏:‏ ‏{‏أو تكونا من الخالدين‏}‏‏.‏

‏{‏وقاسمهما‏}‏ حلف لهما ‏{‏إني لكما لمن الناصحين‏}‏‏.‏

‏{‏فدلاهما بغرور‏}‏ غرَّهما باليمين، ومعنى دلاَّهما‏:‏ جَرَّأَهُما على أكل الشَّجرة بما غرَّهما به من يمينه ‏{‏فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما‏}‏ تهافت لباسهما عنهما، فأبصر كلُّ واحدٍ منهما عورة صاحبه، فاستحييا ‏{‏وطفقا يخصفان‏}‏ أقبلا وجعلا يُرقِّعان الورق كهيئة الثَّوب ليستترا به ‏{‏وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إنَّ الشيطان لكما عدو مبين‏}‏‏.‏

‏{‏قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين‏}‏‏.‏

‏{‏قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر‏}‏ موضع قرار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 27‏]‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فيها تحيون‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ولمَّا ذكر عُريَّ آدم وحواء منَّ علينا بما خلق لنا من اللِّباس، فقال‏:‏

‏{‏يا بني آدم قد أنزلنا عليكم‏}‏ أَيْ‏:‏ خلقنا لكم ‏{‏لباساً يواري سوآتكم‏}‏ يستر عوراتكم ‏{‏وريشاً‏}‏ أَيْ‏:‏ مالاً، وما تتجمَّلون به من الثِّياب الحسنة ‏{‏ولباس التقوى‏}‏ أَيْ‏:‏ ستر العورة لمَنْ يتَّقي الله فيواري عورته ‏{‏ذلك خيرٌ‏}‏ لصاحبه إذا أخذ به، أو خيرٌ من التَّعري، وذلك أنَّ جماعةً من المشركين كانوا يتعبَّدون بالتَّعريِّ وخلع الثَّياب في الطَّواف بالبيت‏.‏ ‏{‏وذلك من آيات الله‏}‏ أَيْ‏:‏ من فرائضه التي أوجبها بآياته‏.‏ يعني‏:‏ ستر العورة ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ لكي يتَّعظوا‏.‏

‏{‏يا بني آدم لا يفتننَّكم الشيطان‏}‏ لا يخدعنَّكم ولا يُضلنَّكم ‏{‏كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما‏}‏ أضاف النَّزع إليه- وإن لم يتولَّ ذلك-؛ لأنَّه كان بسببٍ منه ‏{‏إنَّه يراكم هو وقبيله‏}‏ يعني‏:‏ ومَنْ كان من نسله ‏{‏إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏}‏ سلَّطناهم عليهم ليزيدوا في غيِّهم، كما قال‏:‏ ‏{‏إنَّا أرسلنا الشَّياطين على الكافرين‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 31‏]‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وإذا فعلوا فاحشة‏}‏ يعني‏:‏ طوافهم بالبيت عارين‏.‏

‏{‏قل أمر ربي بالقسط‏}‏ ردٌّ لقولهم‏:‏ ‏{‏والله أمرنا بها‏}‏ والقسط‏:‏ العدل ‏{‏وأقيموا وجوهكم عند كلِّ مسجد‏}‏ وجِّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصَّلاة إلى الكعبة ‏{‏وادعوه مخلصين له الدين‏}‏ وحِّدوه ولا تشركوا به شيئاًَ‏.‏ ‏{‏كما بدأكم‏}‏ في الخلق شيقيَّاً وسعيداً، فكذلك، ‏{‏تعودون‏}‏ سعداء وأشقياء، يدلُّ على صحَّة هذا المعنى قوله‏:‏

‏{‏فريقاً هدى‏}‏ أرشد إلى دينه، وهم أولياؤه ‏{‏وفريقاً حقََّ عليهم الضلالة‏}‏ أَضَلَّهُمْ، وهم أولياء الشَّياطين ‏{‏إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون‏}‏ ثمَّ أمرهم أن يلبسوا ثيابهم ولا يتعرَّوا، فقال‏:‏

‏{‏يا بني آدم خذوا زينتكم‏}‏ يعني‏:‏ ما وارى العورة ‏{‏عند كلِّ مسجد‏}‏ لصلاةٍ أو طواف ‏{‏وكلوا واشربوا‏}‏ كان أهل الجاهليَّة لا يأكلون أيَّام حجِّهم إلاَّ قوتاً، ولا يأكلون دسماً‏.‏ يُعظِّمون بذلك حجِّهم، فقال المسلمون‏:‏ نحن أحقُّ أن نفعل، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وكلوا‏}‏ يعني‏:‏ اللَّحم والدَّسم ‏{‏واشربوا‏}‏ اللَّبن والماء وما أحلَّ لكم ‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ بحظركم على أنفسكم ما قد أحللته لكم من اللَّحم والدَّسم ‏{‏إنَّه لا يحب‏}‏ مَنْ فعل ذلك، أَيْ‏:‏ لا يُثيبه ولا يدخله الجنَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 35‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏ يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏قل من حرَّم زينة الله التي أخرج لعباده‏}‏ مَنْ حرَّم أن تلبسوا في طوافكم ما يستركم ‏{‏والطيبات من الرزق‏}‏ يعني‏:‏ ما حرَّموه على أنفسهم أيَّام حجِّهم ‏{‏قل هي‏}‏ أَي‏:‏ الطَّيِّبات من الرِّزق ‏{‏للذين آمنوا في الحياة الدنيا‏}‏ مباحةٌ لهم مع اشتراك الكافرين معهم فيها في الدُّنيا، ثمَّ هي تخلص للمؤمنين يوم القيامة، وليس للكافرين فيها شيء، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏خالصة يوم القيامة‏}‏ ‏{‏كذلك نفصل الآيات‏}‏ نُفسِّر ما أحللت وما حرَّمت ‏{‏لقومٍ يعلمون‏}‏ أنِّي أنا الله لا شريك لي‏.‏

‏{‏قل إنما حرَّم ربي الفواحش‏}‏ الكبائر والقبائح ‏{‏ما ظهر منها وما بطن‏}‏ سرَّها وعلانيتها ‏{‏والإِثم‏}‏ يعني‏:‏ المعصية التي توجب الإِثم ‏{‏والبغي‏}‏ ظلم النَّاس، وهو أن يطلب ما ليس له ‏{‏وأن تشركوا بالله‏}‏ تعدلوا به في العبادة ‏{‏ما لم ينزل به سلطاناً‏}‏ لم ينزل كتاباً فيه حجَّةٌ ‏{‏وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏}‏ من أنَّه حرَّم الحرث والأنعام، وأنَّ الملائكة بنات الله‏.‏

‏{‏ولكلِّ أمة أجل‏}‏ وقتٌ مضروبٌ لعذابهم وهلاكهم ‏{‏فإذا جاء أجلهم‏}‏ بالعذاب ‏{‏لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون‏}‏ لا يتأخَّرون ولا يتقدَّمون حتى يُعذَّبوا‏.‏

‏{‏يا بني آدم إمَّا يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي‏}‏ فرائضي وأحكامي ‏{‏فمن اتقى‏}‏ اتَّقاني وخافني ‏{‏وأصلح‏}‏ ما بيني وبينه ‏{‏فلا خوف عليهم‏}‏ إذا خاف الخلق في القيامة ‏{‏ولا هم يحزنون‏}‏ إذا حزنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 39‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فمن أظلم ممَّن افترى على الله كذباً‏}‏ فجعل له ولداًَ أو شريكاً ‏{‏أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب‏}‏ ما كُتب لهم من العذاب، وهو سواد الوجه، وزرقة العيون ‏{‏حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم‏}‏ يريد‏:‏ الملائكة يقبضون أرواحهم ‏{‏قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله‏}‏‏؟‏ سؤال توبيخ وتبكيت وتقريع ‏{‏قالوا ضلوا عنا‏}‏ بطلوا وذهبوا ‏{‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ اعترفوا عند مُعاينة الموت، وأقروا على أنفسهم بالكفر‏.‏

‏{‏قال ادخلوا‏}‏ أَيْ‏:‏ قال الله تعالى لهم‏:‏ ادخلوا النَّار ‏[‏‏{‏في أمم‏}‏ أَيْ‏:‏‏]‏ مع ‏{‏أمم قد خلت من قبلكم‏}‏‏.‏ ‏{‏كلما دخلت أمة‏}‏ النَّار ‏{‏لعنت أختها‏}‏ يعني‏:‏ الأمم التي سبقتها إلى النَّار؛ لأنَّهم ضلوا باتِّباعهم ‏{‏حتى إذا ادَّاركوا فيها‏}‏ أَيْ‏:‏ تداركوا، وتلاحقوا، واجتمعوا جميعاً في النَّار ‏{‏قالت أخراهم‏}‏ أَيْ‏:‏ أُخراهم دخولاً إلى النَّار ‏{‏لأولاهم‏}‏ دخولاً‏.‏ يعني‏:‏ قالت الأتباع للقادة‏:‏ ‏{‏ربنا هؤلاء أضلونا‏}‏ لأَنَّهم شرعوا لنا أن نتَّخذ من دونك إلهاً ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً‏}‏ أَضْعِفْ عليهم العذاب بأشدَّ ممَّا تعذِّبنا به ‏{‏قال‏}‏ الله تعالى‏:‏ ‏{‏لكلٍّ ضعف‏}‏ للتَّابع والمتبوع عذابٌ مضاعفٌ ‏{‏ولكن لا تعلمون‏}‏ يا أهل الكتاب في الدًّنيا مقدار ذلك، وقوله‏:‏

‏{‏فما كان لكم علينا من فضل‏}‏ لأنَّكم كفرتم كما كفرنا، فنحن وأنتم في الكفر سواءٌ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏ لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّ الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ بحججنا التي تدلُّ على توحيد الله، ونبوَّة الأنبياء ‏{‏واستكبروا عنها‏}‏ ترفَّعوا عن الإِيمان بها والانقياد لأحكامها ‏{‏لا تفتح لهم أبواب السماء‏}‏ لا تصعد أرواحهم، ولا أعمالهم، ولا شيء ممَّا يريدون الله به إلى السَّماء ‏{‏ولا يدخلون الجنة حتى يلج‏}‏ يدخل ‏{‏الجمل في سم الخياط‏}‏ ثقب الإِبرة‏.‏ يعني‏:‏ أبدأً ‏{‏وكذلك‏}‏ وكما وصفنا ‏{‏نجزي المجرمين‏}‏ أَي‏:‏ المكذِّبين بآيات الله، ثمَّ أخبر عن إحاطة النَّار بهم من كلِّ جانبٍ، فقال‏:‏

‏{‏لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش‏}‏ يعني‏:‏ لهم منها غطاءٌ، ووطاءٌ، وفراشٌ ولحافٌ ‏{‏وكذلك نجزي الظالمين‏}‏ يعني‏:‏ الذين أشركوا بالله‏.‏

‏{‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفساً إلاَّ وسعها‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ ما تطيقه ولا تعجز عنه، والمعنى‏:‏ لا نكلِّف نفساً منهم إلاَّ وسعها، ثمَّ أخبر بباقي الآية عن مآلهم‏.‏

‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل‏}‏ أذهبنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدُّنيا ‏{‏تجري من تحتهم الأنهار‏}‏ من تحت منازلهم وقصورهم، فإذا استقرُّوا في منازلهم ‏{‏قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا‏}‏ أَيْ‏:‏ هدانا لما صيرَّنا إلى هذا الثَّواب من العمل الذي أدَّى إليه، وأقرُّوا أنَّ المهتدي مَنْ هدى الله بقوله‏:‏ ‏{‏وما كنَّا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏}‏ فحين رأوا ما وعدهم الرُّسل عياناً قالوا‏:‏ ‏{‏لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكُم الجنة‏}‏ قيل لهم‏:‏ هذه تلكمُ الجنَّة التي وُعدتم ‏{‏أورثتموها‏}‏ أُورثتم منازل أهل النَّار فيها لو عملوا بطاعة الله ‏{‏بما كنتم تعملون‏}‏ توحِّدون الله وتطيعونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 47‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا‏}‏ في الدُّنيا من الثَّواب ‏{‏حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم‏}‏ من العذاب ‏{‏حقاً‏}‏‏؟‏ وهذا سؤال تعييرٍ وتقريرٍ، فأجاب أهل النَّار و‏{‏قالوا نعم فأذَّن مؤذنٍ بينهم‏}‏ نادى منادٍ وسطهم نداءً يُسمع الفريقين، وهو صاحب الصُّور ‏{‏أن لعنة الله على الظالمين‏}‏‏.‏

‏{‏الذين يصدون‏}‏ يمنعون ‏{‏عن سبيل الله‏}‏ دين الله وطاعته ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ ويطلبونها بالصَّلاة لغير الله، وتعظيم ما لم يعظِّمه الله‏.‏

‏{‏وبينهما‏}‏ بين أهل الجنَّة وبين أهل النَّار ‏{‏حجاب‏}‏ حاجزٌ، وهو سور الأعراف ‏{‏وعلى الأعراف‏}‏ يريد‏:‏ سور الجنَّة ‏{‏رجال‏}‏ وهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم ‏{‏يعرفون كلاً بسيماهم‏}‏ يعرفون أهل الجنَّة ببياض الوجوه، وأهل النَّار بسوادها، وذلك لأنَّ موضعهم عالٍ مرتفع، فهم يرون الفريقين ‏{‏ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم‏}‏ إذا نظروا إلى الجنَّة سلَّموا على أهلها ‏{‏لم يدخلوها‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنَّة ‏{‏وهم يطمعون‏}‏ في دخولها‏.‏

‏{‏وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار‏}‏ أَيْ‏:‏ جهة لقائهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48- 52‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏ونادى أصحاب الأعراف رجالاً‏}‏ من أهل النَّار ‏{‏يعرفونهم بسيماهم‏}‏ من رؤساء المشركين فيقولون لهم‏:‏ ‏{‏ما أغنى عنكم جمعكم‏}‏ المال واستكثاركم منه ‏{‏وما كنتم تستكبرون‏}‏ عن عبادة الله، ثمَّ يقسم أصحاب النَّار أنَّ أصحاب الأعراف داخلون معهم النَّار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف‏:‏

‏{‏أهؤلاء الذين أقسمتم‏}‏ يا أصحاب النَّار ‏{‏لا ينالهم الله برحمة‏}‏ يقولون لأصحاب الأعراف‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏}‏‏.‏

‏{‏ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله‏}‏ يعني‏:‏ الطَّعام، وهذا يدلُّ على جوعهم وعطشهم ‏{‏قالوا إنَّ الله حرمهما على الكافرين‏}‏ تحريم منع ‏[‏لا تحريم تعبُّدٍ‏]‏‏.‏

‏{‏الذين اتخذوا دينهم‏}‏ الذي شُرع لهم ‏{‏لهواً ولعباً‏}‏ يعني‏:‏ المستهزئين المُقتسمين ‏{‏فاليوم ننساهم‏}‏ نتركهم في جهنَّم ‏{‏كما نسوا لقاء يومهم هذا‏}‏ كما تركوا العمل لهذا اليوم ‏{‏وما كانوا بآياتنا يجحدون‏}‏ أَيْ‏:‏ وكما جحدوا بآياتنا ولم يُصدِّقوها‏.‏

‏{‏ولقد جئناهم‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏بكتاب‏}‏ هو القرآن ‏{‏فصلناه‏}‏ بيّناه ‏{‏على علم‏}‏ فيه‏.‏ يعني‏:‏ ما أُودع من العلوم وبيان الأحكام ‏{‏هدى‏}‏ هادياً ‏{‏ورحمة‏}‏ وذا رحمةٍ ‏{‏لقوم يؤمنون‏}‏ لقومٍ أريد به هدايتهم وإيمانهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 55‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏هل ينظرون‏}‏ ينتظرون، أَيْ‏:‏ كأنَّهم ينتظرون ذلك؛ لأنَّه يأتيهم لا محالة ‏{‏إلاَّ تأويله‏}‏ عاقبة ما وعد الله في الكتاب من البعث والنُّشور ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ وهو يوم القيامة ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏}‏ تركوا الإِيمان به والعمل له من قبل إتيانه ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏ بالصِّدق والبيان ‏{‏فهل لنا من شفعاء‏}‏ هل يشفع لنا شافعٌ‏؟‏ ‏{‏أو‏}‏ هل ‏{‏نردُّ‏}‏ إلى الدُّنيا ‏{‏فنعمل غير الذي كنا نعمل‏}‏ نوحِّد الله ونترك الشِّرك، يقول الله‏:‏ ‏{‏قد خسروا أنفسهم‏}‏ حين صاروا إلى الهلاك ‏{‏وضلَّ عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ سقط عنهم ما كانوا يقولونه مِنْ أنَّ مع الله إلهاً آخر‏.‏

‏{‏إنَّ ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام‏}‏ أَيْ‏:‏ في مقدار ستة أيَّامٍ، من الأحد إلى السَّبت، واجتمع الخلق في الجمعة ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ أقبل على خلقه، وقصد إلى ذلك بعد خلق السَّموات والأرض ‏{‏يغشي الليل النهار‏}‏ يُلبسه ويُدخله عليه ‏{‏يطلبه حثيثاً‏}‏ يطلب اللَّيل دائباً لا غفلة له ‏{‏والشمس‏}‏ وخلق الشَّمس ‏{‏والقمر والنجوم مسخرات‏}‏ مُذلَّلاتٍ لما يُراد منها من طلوعٍ وأُفولٍ، وسيرٍ ورجوعٍ ‏{‏بأمره‏}‏ بإذنه ‏{‏ألا له الخلق‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ جميع ما في العالم مخلوق له ‏{‏و‏}‏ له ‏{‏الأمر‏}‏ فيهم، يأمر بما أراد ‏{‏تبارك الله‏}‏ تمجَّد وتعظَّم وارتفع وتعالى‏.‏

‏{‏ادعوا ربكم تضرُّعاً‏}‏ أَيْ‏:‏ تملُّقاً ‏{‏وخفية‏}‏ سرَّاً ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ المجاوزين ما أُمروا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 58‏]‏

‏{‏وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏ بالشِّرك والمعاصي وسفك الدِّماء ‏{‏بعد‏}‏ إصلاح الله إياها ببعث الرَّسول ‏{‏وادعوه خوفاً‏}‏ من عقابه ‏{‏وطعماً‏}‏ في ثوابه ‏{‏إنَّ رحمة الله‏}‏ ثوابَ الله ‏{‏قريب من المحسنين‏}‏ وهم الذين يطيعون الله فيما أمر‏.‏

‏{‏وهو الذي يرسل الرياح نُشْراً‏}‏ طيِّبة ليِّنة، من النَّشر وهو الرَّائحة الطَّيِّبة‏.‏ وقيل‏:‏ مُتفرِّقةً في كلِّ جانبٍ، بمعنى المنتشرة ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏ قدَّام مطره ‏{‏حتى إذا أقلَّت‏}‏ أَيْ‏:‏ حملت هذه الرِّياح ‏{‏سحاباً ثقالاً‏}‏ بما فيها من الماء سُقنا السَّحاب ‏{‏لبلد ميت‏}‏ إلى مكان ليس فيه نباتٌ ‏{‏فأنزلنا به‏}‏ بذلك البلد ‏{‏الماء فأخرجنا‏}‏ بذلك الماء ‏{‏من كلَّ الثمرات كذلك نخرج الموتى‏}‏ أَيْ‏:‏ نحيي الموتى مثل ذلك الإِحياء الذي وصفناه في البلد الميت ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ لعلَّكم بما بيَّنا تتَّعظون، فتستدلُّون على توحيد الله وقدرته على البعث، ثمَّ ضرب مثلاً للمؤمن والكافر فقال‏:‏

‏{‏والبلد الطيب‏}‏ يعني‏:‏ العذبُ التُّراب ‏{‏يخرج نباته بإذن ربه‏}‏ وهذا مثل المؤمن يسمع القرآن فينتفع به، ويحسن أثره عليه ‏{‏والذي خبث‏}‏ ترابه وأصله ‏{‏لا يخرج‏}‏ نباته ‏{‏إلاَّ نكداً‏}‏ عسراً مُبطئاً، وهو مثل الكافر يسمع القرآن، ولا يُؤثِّر فيه أثراً محموداً، كالبلد الخبيث لا يُؤثِّر فيه المطر ‏{‏كذلك نصرِّف الآيات‏}‏ نبيِّنها ‏{‏لقوم يشكرون‏}‏ نِعَمَ الله ويطيعونه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 66‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه‏}‏ ظاهرٌ إلى قوله‏:‏

‏{‏وأنصح لكم‏}‏ أَيْ‏:‏ أدعوكم إلى ما دعاني الله إليه ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ من أنَّه غفورٌ لمَنْ رجع عن معاصيه، وأنَّ عذابه أليمٌ لمن أصرَّ عليها‏.‏

‏{‏أَوَعجتبم أن جاءكم ذكر من ربكم‏}‏ موعظةٌ من الله ‏{‏على رجل‏}‏ على لسان رجل ‏{‏منكم‏}‏ تعرفون نسبه‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏إنهم كانوا قوماً عمين‏}‏ عميت قلوبهم عن معرفة الله تعالى وقدرته‏.‏

‏{‏وإلى عاد أخاهم‏}‏ وأرسلنا إلى عادٍ أخاهم ابن أبيهم ‏{‏هوداً قال يا قوم اعبدوا الله‏}‏ وحِّدوا الله ‏{‏ما لكم من إله غيره أفلا تتقون‏}‏ أفلا تخافون نقمته‏.‏

‏{‏قال الملأ‏}‏ الرُّؤساء والجماعة ‏{‏الذين كفروا من قومه إنَّا لنراك في سفاهة‏}‏ حمقٍ وجهلٍ ‏{‏وإنا لنظنك من الكاذبين‏}‏ فيما جئت به من ادِّعاء النُّبوَّة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏ قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏ناصح أمين‏}‏ أَيْ‏:‏ على الرِّسالة لا أكذب فيها‏.‏

‏{‏واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قَوم نوحٍ‏}‏ أَيْ‏:‏ استخلفكم في الأرض بعد هلاكهم ‏{‏وزادكم في الخلق بسطة‏}‏ فضيلةً في الطُّول ‏{‏فاذكروا آلاء الله‏}‏ نِعَمَ الله عليكم ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ كي تسعدوا وتبقوا في الجنَّة، وقوله‏:‏

‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ أَيْ‏:‏ من العذاب ‏{‏إن كنت من الصادقين‏}‏ أنَّ العذاب نازلٌ بنا‏.‏

‏{‏قال‏:‏ قد وقع‏}‏ وجب ‏{‏عليم من ربكم رجس وغضب‏}‏ عذابٌ وسخطٌ ‏{‏أتجادلونني في أسماء سَمَّيْتُموها‏}‏ كانت لهم أصنام سمَّوها أسماءً مختلفةً، فلمَّا دعاهم الرَّسول إلى التَّوحيد استنكروا عبادة الله وحده‏.‏ ‏{‏ما نَزَّلَ الله بها من سلطان‏}‏ من حجةٍ وبرهانٍ لكم في عبادتها ‏{‏فانتظروا‏}‏ العذاب ‏{‏إني معكم من المنتظرين‏}‏ ذلك في تكذيبهم إيَّاي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏فذروها تأكل في أرض الله‏}‏ أَيْ‏:‏ سهَّل الله عليكم أمرها، فليس عليكم رزقها ولا مؤونتها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وبوَّأكم في الأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ أسكنكم وجعل لكم فيها مساكن ‏{‏تتخذون من سهولها قصوراً‏}‏ تبنون القصور بكلِّ موضعٍ ‏{‏وتنحتون الجبال بيوتاً‏}‏ يريد‏:‏ بيوتاً في الجبال تُشققونها، وكانوا يسكنونها شتاءً، ويسكنون القصور بالصَّيف‏.‏

‏{‏قال الملأ‏}‏ وهم الأشراف ‏{‏الذين استكبروا من قومه‏}‏ عن عبادة الله ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ يريد المساكين ‏{‏لمن آمن منهم‏}‏ بدلٌ من قوله‏:‏ ‏{‏للذين استضعفوا‏}‏ لأنَّهم المؤمنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 81‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فعقروا الناقة‏}‏ نحروها ‏{‏وعتوا عن أمر ربهم‏}‏ عصوا الله وتركوا أمره في النَّاقة ‏{‏وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا‏}‏ من العذاب‏.‏

‏{‏فأخذتهم الرجفة‏}‏ وهي الزَّلزلة الشَّديدة ‏{‏فأصبحوا في دارهم‏}‏ بلدهم ‏{‏جاثمين‏}‏ خامدين مَيِّتين‏.‏

‏{‏فتولى عنهم‏}‏ أعرض عنهم صالحٌ بعد نزول العذاب بهم ‏{‏وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم‏}‏ خوَّفتكم عقاب الله، وهذا كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى بدر‏.‏

‏{‏ولوطاً‏}‏ وأرسلنا لوطاً، أَيْ‏:‏ واذكر لوطاً ‏{‏إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة‏}‏ يعني‏:‏ إتيان الذُّكور ‏{‏ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏ قالوا‏:‏ ما نزا ذَكَرٌ على ذَكَرٍ حتى كان قوم لوطٍ‏.‏

‏{‏إنكم لتأتون الرجال‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 86‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وما كان جواب قومه إلاَّ أن قالوا أخرجوهم في قريتكم‏}‏ يعني‏:‏ لوطاً وأتباعه ‏{‏إنهم أناس يتطهرون‏}‏ عن إتيان الرِّجال في أدبارهم‏.‏

‏{‏فأنجيناه وأهله‏}‏ ابنتيه ‏{‏إلاَّ امرأته كانت من الغابرين‏}‏ الباقين في عذاب الله‏.‏

‏{‏وأمطرنا عليهم مطراً‏}‏ يعني‏:‏ حجارةً‏.‏

‏{‏وإلى مدين‏}‏ وهم قبيلةٌ من ولد إبراهيم عليه السَّلام ‏{‏قد جاءتكم بينة من ربكم‏}‏ موعظةٌ ‏{‏فأوفوا الكيل والميزان‏}‏ أَتِمُّوهُمَا، وكانوا أهلَ كفرٍ وبخسٍ للمكيال والميزان ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏ لا تعملوا فيها بالمعاصي بعد أن أصلحها الله ببعثه شعيبٍ والأمر بالعدل‏.‏

‏{‏ولا تقعدوا بكلِّ صراط توعدون‏}‏ لا تقعدوا على طريق النَّاس، فتخوِّفون أهل الإِيمان بشعيبٍ بالقتل ونحو ذلك ‏[‏وتأخذون ثياب من مرَّ بكم من الغرباء‏]‏ ‏{‏وتصدون عن سبيل الله من آمن به‏}‏ وتصرفون عن الإسلام مَنْ آمن بشعيب ‏{‏وتبغونها عوجاً‏}‏ تلتمسون لها الزَّيغ ‏{‏واذكروا إذْ كنتم قليلاً فكثَّركم‏}‏ بعد القلَّة، وأعزَّكم بعد الذِّلة، وذلك أنَّه كان مدين بن إبراهيم، وزوجه ريثا بنت لوط، فولدت حتى كثر عدد أولادها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏88- 89‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا او لتعودنَّ في ملتنا‏}‏ معناه أنَّهم قالوا لشعيب وأصحابه‏:‏ ليكوننَّ أحد الأمرين؛ إمَّا الإِخراج من القرية؛ أو عودكم في ملَّتنا، ولا نفارقكم على مخالفتنا، فقال شعيب‏:‏ ‏{‏أو لو كنا كارهين‏}‏ أَيْ‏:‏ تجبروننا على العود في ملَّتكم، وإنْ كرهنا ذلك‏؟‏ وقوله‏:‏

‏{‏وما يكون لنا أن نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله ربنا‏}‏ أَيْ‏:‏ إلاَّ أن يكون قد سبق في علم الله وفي مشيئته أن نعود فيها ‏{‏وَسِعَ ربنا كلَّ شيء علماً‏}‏ علم ما يكون قبل أن يكون ‏{‏ربنا افتح‏}‏ احكم واقضِ ‏{‏بيننا وبين قومنا بالحق‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏92- 93‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ ‏(‏92‏)‏ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏كأن لم يغنوا فيها‏}‏ أَيْ‏:‏ لم يقيموا فيها، ولم ينزلوا، وقوله‏:‏

‏{‏فكيف آسى على قوم كافرين‏}‏ أَيْ‏:‏ كيف يشتدُّ حزني عليهم، ومعناه‏:‏ الإِنكار أَيْ‏:‏ لا آسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏94- 103‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ‏(‏94‏)‏ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏95‏)‏ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏96‏)‏ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏97‏)‏ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ‏(‏98‏)‏ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏99‏)‏ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏100‏)‏ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ‏(‏101‏)‏ وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ‏(‏102‏)‏ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏وما أرسلنا من قرية‏}‏ في مدينةٍ ‏{‏من نبي‏}‏ فكذَّبه أهلها ‏{‏إلاَّ أخذنا‏}‏ هم ‏{‏بالبأساء والضراء‏}‏ بالفقر والجوع ‏{‏لعلهم يضَّرَّعون‏}‏ كي يستكينوا ويرجعوا‏.‏

‏{‏ثمَّ بدلنا مكان السيئة الحسنة‏}‏ بدل البؤسِ والمرضِ الغنى والصحَّة ‏{‏حتى عفوا‏}‏ كثروا وسمنوا، وسمنت أموالهم ‏{‏وقالوا‏}‏ من غِرَّتهم وجهلهم‏:‏ ‏{‏قد مسَّ آباءنا الضراء والسراء‏}‏ قد أصاب آباءنا في الدَّهر مثل ما أصابنا، وتلك عادة الدَّهر، ولم يكن ما مسَّنا عقوبة من الله، فكونوا على ما أنتم عليه، فلمَّا فسدوا على الأمرين جميعاً أخذهم الله بغتة ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ بنزول العذاب، وهذا تخويفٌ لمشركي قريش‏.‏

‏{‏ولو أنَّ أهل القرى آمنوا‏}‏ وحَّدوا الله ‏{‏واتقوا‏}‏ الشِّرك ‏{‏لفتحنا عليهم بركات من السماء‏}‏ بالمطر ‏{‏و‏}‏ من ‏{‏الأرض‏}‏ بالنَّبات والثِّمار ‏{‏ولكن كذبوا‏}‏ الرُّسل ‏{‏فأخذناهم‏}‏ بالجدوبة والقحط ‏{‏بما كانوا يكسبون‏}‏ من الكفر والمعصية‏.‏

‏{‏أفأمن أهل القرى‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكَّة وما حولها، ومعنى هذه الآية وما بعدها‏:‏ أنَّه لا يجوز لهم أن يأمنوا ليلاً ولا نهاراً بعد تكذيب محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وقوله‏:‏

‏{‏وهم يلعبون‏}‏ أَيْ‏:‏ وهم في غير ما يُجدي عليهم‏.‏

‏{‏أفأمنوا مكر الله‏}‏ عذاب الله أن يأتيهم بغتةً‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يهد‏}‏ يتبيَّن ‏{‏للذين يرثون الأرض من بعد أهلها‏}‏ كفار مكَّة ومَنْ حولهم ‏{‏أن لو نشاء أصبناهم‏}‏ عذَّبناهم ‏{‏بذنوبهم‏}‏ ثمَّ ‏{‏نطبع على قلوبهم‏}‏ حتى يموتوا على الكفر، فيدخلوا النَّار، والمعنى‏:‏ ألم يعلموا أنَّا لو نشاء فعلنا ذلك‏.‏

‏{‏تلك القرى‏}‏ التي أهلكتُ أهلها ‏{‏نقص عليك من أنبائها‏}‏ نتلو عليك من أخبارها، كيف أُهلكت ‏{‏ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات‏}‏ يعني‏:‏ الذين أُرسلوا إليهم ‏{‏فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل‏}‏ فما كان أولئك الكفَّار ليؤمنوا عند إرسال الرُّسل بما كذَّبوا يوم أخذ ميثاقهم، فأقرُّوا بلسانهم وأضمروا التَّكذيب ‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ مثل ذلك الذي طبع الله على قلوب كفَّار الأمم ‏{‏يطبع الله على قلوب الكافرين‏}‏ الذين كتب عليهم ألاَّ يؤمنوا أبداً‏.‏

‏{‏وما وجدنا لأكثرهم من عهد‏}‏ يعني‏:‏ الوفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق‏.‏

‏{‏ثم بعثنا من بعدهم‏}‏ الأنبياء الذين جرى ذكرهم ‏{‏موسى بآياتنا إلى فرعون ومَلَئِهِ فظلموا بها‏}‏ فجحدوا بها وكذَّبوا ‏{‏فانظر‏}‏ بعين قلبك ‏{‏كيف كان‏}‏ عاقبتهم، وكيف فعلنا بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏حقيق على أن لا أقول‏}‏ أَيْ‏:‏ أنا حقيق بأن لا أقول ‏{‏على الله إلاَّ‏}‏ ما هو ‏{‏الحق‏}‏ وهو أنَّه واحدٌ لا شريك له ‏{‏قد جئتكم ببينة من ربكم‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ بأمرٍ من ربِّكم‏]‏ وهو العصا ‏{‏فأرسل معي بني إسرائيل‏}‏ أَيْ‏:‏ أطلق عليهم، وخلِّهم، وكان فرعون قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏107- 108‏]‏

‏{‏فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ‏(‏107‏)‏ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏فإذا هي‏}‏ أَيْ‏:‏ العصا ‏{‏ثعبان‏}‏ وهو أعظم ما يكون من الحيَّات ‏{‏مبين‏}‏ بيِّنٌ أنَّه حيَّة لا لبس فيه‏.‏

‏{‏ونزع يده‏}‏ أخرجها من جيبه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 115‏]‏

‏{‏يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ‏(‏110‏)‏ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ‏(‏111‏)‏ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏يريد أن يخرجكم من أرضكم‏}‏ هذا قول الأشراف من قوم فرعون، قالوا‏:‏ يريد موسى أن يخرجكم معشرَ القبط من أرضكم، ويزيل ملككم بتقوية عدوِّكم بني إسرائيل، فقال فرعون لهم‏:‏ ‏{‏فماذا تأمرون‏}‏ أَيش تُشيرون به عليَّ‏؟‏

‏{‏قالوا أرجه وأخاه‏}‏ أَخِّرْ أمره وأمر أخيه ولا تعجل ‏{‏وأرسل في المدائن‏}‏ في مدائن صعيد مصر ‏{‏حاشرين‏}‏ رجالاً يحشرون إليك مَنْ في الصَعيد من السَّحرة، فأرسل ‏{‏وجاء السحرة فرعون‏}‏ وطالبوه بالمال والجوائز إنْ غلبوه، فأجابهم فرعون إلى ذلك، وهو قوله‏:‏

‏{‏نعم وإنكم لمن المقربين‏}‏ أَيْ‏:‏ ولكم من الأجر المنزلة الرَّفيعة عندي‏.‏

‏{‏قالوا يا موسى إمَّا إن تلقي‏}‏ عصاك ‏{‏وإمَّا أن نكون نحن الملقين‏}‏ ما معنا من الحبال والعصي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 120‏]‏

‏{‏قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏ وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏قال ألقوا فلما أَلْقَوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم‏}‏ قلبوها عن صحَّة إدراكها حيث رأوها حيَّات ‏{‏وجاؤوا بسحر عظيم‏}‏ وذلك أنَّهم ألقوا حبالاً غلاظاً فإذا هي حيَّاتٌ قد ملأت الوادي‏.‏

‏{‏وأوحينا إلى موسى أن ألقِ عصاك فإذا هي تلقف‏}‏ تبتلع ‏{‏ما يأفكون‏}‏ يكذبون فيه، وذلك أنَّهم زعموا أنَّ عصيَّهم وحبالهم حَيّاتٍ، وَكذبوا في ذلك‏.‏

‏{‏فوقع الحق‏}‏ ظهر وغلب‏.‏

‏{‏فغلبوا هنالك وانقلبوا‏}‏ وانصرفوا ‏{‏صاغرين‏}‏ ذليلين‏.‏

‏{‏وألقي السحرة ساجدين‏}‏ خرُّوا لله عابدين سامعين مطيعين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏123- 125‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏ قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم‏}‏ أصدَّقتم موسى من قبل أمري إيَّاكم‏؟‏‏!‏ ‏{‏إنَّ هذا لمكر مكرتموه في المدينة‏}‏ لصينعٌ صنعتموه فيما بينكم وبين موسى في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع ‏{‏لتخرجوا منها أهلها‏}‏ لتستولوا على مصر فتخرجوا منها أهلها، وتتغلبوا عليها بسحركم ‏{‏فسوف تعلمون‏}‏ ما يظهر لكم‏.‏

‏{‏لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف‏}‏ على مخالفة، وهو أن يقطع من كلِّ شقٍّ طرف‏.‏

‏{‏قالوا إنا إلى ربنا منقلبون‏}‏ راجعون بالتَّوحيد والإِخلاص‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏126- 132‏]‏

‏{‏وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏ قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وما تنقم منا‏}‏ وما تطعن علينا ولا تكره منَّا ‏{‏إلاَّ أن آمنا بآيات ربنا‏}‏ ما أتى به موسى من العصا واليد ‏{‏ربنا أفرغ علينا صبراً‏}‏ اصبب علينا الصَّبر عند الصَّلب والقطع حتى لا نرجع كفَّاراً ‏{‏وتوفنا مسلمين‏}‏ على دين موسى، ثمَّ أغرى الملأ من قوم فرعون بموسى فقالوا‏:‏

‏{‏أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض‏}‏ ليدعوا النَّاس إلى مخالفتك وعبادة غيرك ‏{‏ويذرك وآلهتك‏}‏ وذلك أنَّ فرعون كان قد صنع لقومه أصناماً صغاراً، وأمرهم بعبادتها وقال‏:‏ أنا ربُّكم وربُّ هذه الأصنام، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أنا ربُّكم الأعلى‏}‏، فقال فرعون‏:‏ ‏{‏سنقتل أَبْناءَهم‏}‏ وكان قد ترك قتل أبناء بني إسرائيل، فلمَّا كان من أمر موسى ما كان أعاد عليهم القتل، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏سنقتل أبناءهم ونَسْتَحْيِيَ نساءهم‏}‏ للمهنة والخدمة ‏{‏وإنا فوقهم قاهرون‏}‏ وإنَّا على ذلك قادرون، فشكا بنو إسرائيل إلى موسى إعادة القتل على أبنائهم، فقال لهم موسى‏:‏

‏{‏استعينوا بالله واصبروا‏}‏ على ما يُفعل بكم ‏{‏إنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده‏}‏ أطمعهم موسى أن يعطيهم الله ملكهم ومالهم ‏{‏والعاقبة للمتقين‏}‏ أَيْ‏:‏ الجنَّة لمن اتَّقى‏.‏ وقيل‏:‏ النَّصر والظَّفر‏.‏

‏{‏قالوا أوذينا‏}‏ بالقتل الأوَّل ‏{‏من قبل أن تأتينا‏}‏ بالرِّسالة ‏{‏ومن بعد ما جئتنا‏}‏ بإعادة القتل علينا، والإِتعاب في العمل ‏{‏قال‏:‏ عسى ربكم أن يهلك عدوكم‏}‏ فرعون وقومه ‏{‏ويستخلفكم في الأرض‏}‏ يُملِّككم ما كان يملك فرعون ‏{‏فينظر كيف تعملون‏}‏ فيرى ذلك لوقوع ذلك منكم‏.‏

‏{‏ولقد آخذنا آل فرعون بالسنين‏}‏ بالجدوب لأهل البوادي ‏{‏ونقص من الثمرات‏}‏ لأهل القرى، ‏[‏وصرَّفنا الآيات‏:‏ بيَّناها لهم من كلِّ نوعٍ‏]‏ ‏{‏لعلهم يذكرون‏}‏ كي يتَّعظوا‏.‏

‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة‏}‏ الخصب وسعة الرِّزق ‏{‏قالوا لنا هذه‏}‏ أَيْ‏:‏ إنَّا مستحقُّوه على العادة التي جرت لنا من النِّعمة، ولم يعلموا أنَّه من الله فيشكروا عليه ‏{‏وإن تصبهم سيئة‏}‏ قحط وجدب ‏{‏يطيروا‏}‏ يتشاءموا ‏{‏بموسى‏}‏ وقومه، وقالوا‏:‏ إنَّما أصابنا هذا الشرُّ بشؤمهم ‏{‏ألا إنَّما طائرهم عند الله‏}‏ شؤمهم جاءهم بكفرهم بالله ‏{‏ولكن أكثرهم لا يعلمون‏}‏ أنَّ الذي أصابهم من الله‏.‏

‏{‏وقالوا‏}‏ لموسى‏:‏ ‏{‏مهما تأتنا به‏}‏ أَيْ‏:‏ متى ما تأتنا به ‏{‏من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين‏}‏ فدعا عليهم موسى، فأرسل الله عليهم السَّماء بالماء حتى امتلأت بيوت القِبْطِ ماءً، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل من الماء قطرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 140‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏ وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ‏(‏138‏)‏ إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏139‏)‏ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏140‏)‏‏}‏

‏{‏فأرسلنا عليهم الطوفان‏}‏ ودام ذلك سبعة أيَّام، فقالوا‏:‏ ‏{‏يا موسى ادعُ لنا ربك‏}‏ يكشف عنا فنؤمن لك، فدعا ربَّه فكشف، فلم يؤمنوا فبعث الله عليهم الجراد، فأكلت عامَّة زروعهم وثمارهم، فوعدوه أن يؤمنوا إن كشف عنهم، فكشف فلم يؤمنوا، فبعث الله عليهم القمَّل، وهو الدّباء الصِّغار ‏[‏البق‏]‏ التي لا أجنحة لها، فتتبَّعَ ما بقي من حروثهم وأشجارهم، فصرخوا فكشف عنهم، فلم يؤمنوا، فعادوا بكفرهم، فأرسل الله عليهم الضَّفادع تدخل في طعامهم وشرابهم، فعاهدوا موسى أن يؤمنوا، فكشف عنهم فعادوا لكفرهم، فأرسل الله عليهم الدَّم، فسال النِّيل عليهم دماً، وصارت مياههم كلُّها دماً، فذلك قوله‏:‏

‏{‏آيات مفصلات‏}‏ مبيَّنات ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن عبادة الله‏.‏

‏{‏ولما وقع عليهم الرجز‏}‏ أَيْ‏:‏ العذاب، وهو ما كانوا فيه من الجراد وما ذكر بعده ‏{‏قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك‏}‏ بما أوصاك به وتقدَّم إليك أن تدعوه به ‏{‏لئن كشفت عنا الرجز لنؤمننَّ لك ولنرسلنَّ معك بني إسرائيل‏}‏ وقوله‏:‏

‏{‏إلى أجل هم بالغوه‏}‏ يعني‏:‏ إلى الأجل الذي غَرَّقهم فيه ‏{‏إذا هم ينكثون‏}‏ ينقضون العهد ولا يوفون‏.‏

‏{‏فانتقمنا منهم‏}‏ سلبنا نعمتهم بالعذاب ‏{‏فأغرقناهم في اليم‏}‏ في البحر ‏{‏بأنهم كذبوا بآياتنا‏}‏ جزاء تكذيبهم ‏{‏وكانوا عنها غافلين‏}‏ غير معتبرين بها‏.‏

‏{‏وأورثنا القوم‏}‏ ملَّكناهم ‏{‏الذين كانوا يستضعفون‏}‏ بقتل أبنائهم واستخدام نسائهم ‏{‏مشارق الأرض ومغاربها‏}‏ جهات شرق أرض الشَّام، وجهات غربها، ‏{‏التي باركنا فيها‏}‏ بإخراج الزُّروع والثِّمار، والأنهار والعيون ‏{‏وتمت كلمة ربك الحسنى‏}‏ مواعيده التي لا خلف فيها بما كانوا يحبُّون، وذلك جزاء صبرهم على صنيع فرعون ‏{‏ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه‏}‏ أهلكنا ما عمل فرعون وقومه في أرض مصر ‏{‏وما كانوا يعرشون‏}‏ وما بنوا المنازل والبيوت‏.‏

‏{‏وجاوزنا ببني إسرائيل البحر‏}‏ عبرنا بهم البحر ‏{‏فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم‏}‏ يعبدونها مقيمين عليها ‏{‏قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً‏}‏ من دون الله ‏{‏كما لهم آلهة قال إنكم قومٌ تجهلون‏}‏ نعمة الله عليكم وما صنع بكم، حيث توهَّمتم أنَّه يجوز عبادة غيره‏.‏

‏{‏إنَّ هؤلاء‏}‏ يعني‏:‏ الذين عكفوا على أصنامهم ‏{‏متبَّرٌ ما هم فيه‏}‏ مهلَكٌ ومدَمَّرٌ ‏{‏وباطل ما كانوا يعملون‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ عملهم للشَّيطان، ليس لله فيه نصيبٌ‏.‏

‏{‏قال أغير الله أبغيكم‏}‏ أطلب لكم ‏{‏إلهاً‏}‏ معبوداً ‏{‏وهو فضلكم على العالمين‏}‏ على عالمي زمانكم بما أعطاكم من الكرامات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 144‏]‏

‏{‏وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏142‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏143‏)‏ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‏(‏144‏)‏‏}‏

‏{‏وواعدنا موسى ثلاثين ليلة‏}‏ يترقَّب انقضاءها للمناجاة، وهي ذو القعدة‏.‏ أمره الله تعالى أن يصوم فيها، فلمَّا انسلخ الشَّهر استاك لمناجاة ربِّه يريد إزالة الخلوف، فأُمر بصيام عشرةٍ من ذي الحجَّة؛ ليكلِّمه بخُلوفِ فيه، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وأتممناها بعشر فتمَّ ميقات ربِّه‏}‏ أَيْ‏:‏ الوقت الذي قدَّره الله لصوم موسى ‏{‏أربعين ليلة‏}‏ فلمَّا أراد الانطلاق إلى الجبل استخلف أخاه هارون على قومه، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏وقال موسى لأخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح‏}‏ أَيْ‏:‏ وارفق بهم ‏{‏ولا تتبع سبيل المفسدين‏}‏ لا تطع مَنْ عصى الله، ولا توافقه على أمره‏.‏

‏{‏ولما جاء موسى لميقاتنا‏}‏ أَيْ‏:‏ في الوقت الذي وقَّتنا له ‏{‏وكلمه ربُّه‏}‏ فلمَّا سمع كلام الله ‏{‏قال ربِّ أرني‏}‏ نفسك ‏{‏أنظر إليك‏}‏ والمعنى‏:‏ إنَّي قد سمعتُ كلامك فأنا أحبُّ أن أراك ‏{‏قال لن تراني‏}‏ في الدُّنيا ‏{‏ولكن‏}‏ اجعل بيني وبينك ما هو أقوى منك، وهو الجبل ‏{‏فإن استقر مكانه‏}‏ أَيْ‏:‏ سكن وثبت ‏{‏فسوف تراني‏}‏ وإن لم يستقرَّ مكانه فإنَّك لا تطيق رؤيتي، كما أنَّ الجبل لا يطيق رؤيتي ‏{‏فلما تجلى ربه‏}‏ أَيْ‏:‏ ظهر وبان ‏{‏جعله دكاً‏}‏ أَيْ‏:‏ مدقوقاً مع الأرض كِسَراً تراباً ‏{‏وخرَّ‏}‏ وسقط ‏{‏موسى صعقاً‏}‏ مغشياً عليه ‏{‏فلما أفاق قال سبحانك‏}‏ تنزيهاً لك من السُّوء ‏{‏تبتُ إليك‏}‏ من مسألتي الرُّؤية في الدُّنيا ‏{‏وأنا أول المؤمنين‏}‏ أوَّل قومي إيماناً‏.‏

‏{‏قال يا موسى إني اصطفيتك‏}‏ اتَّخذتك صفوةً ‏{‏على الناس برسالاتي‏}‏ أَيْ‏:‏ بوحيي إليك ‏{‏وبكلامي‏}‏ كلَّمتك من غير واسطة ‏{‏فخذ ما آتيتك‏}‏ من الشَّرف والفضيلة ‏{‏وكن من الشاكرين‏}‏ لأنعمي في الدنيا والآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 148‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏145‏)‏ سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏146‏)‏ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏147‏)‏ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏148‏)‏‏}‏

‏{‏وكتبنا له في الألواح‏}‏ يعني‏:‏ ألواح التَّوراة ‏{‏من كل شيء‏}‏ يحتاج إليه في أمر دينه ‏{‏موعظة‏}‏ نهياً عن الجهل ‏{‏وتفصيلاً لكل شيء‏}‏ من الحلال والحرام ‏{‏فخذها‏}‏ أَيْ‏:‏ وقلنا له‏:‏ فخذها ‏{‏بقوة‏}‏ بجدٍّ وصحِّةٍ وعزيمةٍ ‏{‏وأمر قومك‏}‏ أن ‏{‏يأخذوا بأحسنها‏}‏ أَيْ‏:‏ بحسنها، وكلُّها حسن ‏{‏سأريكم دار الفاسقين‏}‏ يعني‏:‏ جهنَّم، أَيْ‏:‏ ولتكن على ذكرٍ منهم لتحذورا أن تكونوا منهم‏.‏

‏{‏سأصرف عن آياتي‏}‏ يعني‏:‏ السَّموات والأرض‏.‏ أصرفهم عن الاعتبار بما فيها ‏{‏الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق‏}‏ يعني‏:‏ المشركين‏.‏ يقول‏:‏ أعاقبهم بحرمان الهداية ‏{‏وإن يروا سبيل الرشد‏}‏ الهدى والبيان الذي جاء من الله ‏{‏لا يتخذوه سبيلاً‏}‏ ديناً ‏{‏وإن يروا سبيل الغي‏}‏ طاعة الشَّيطان ‏{‏يتخذوه سبيلاً‏}‏ ديناً ‏{‏ذلك‏}‏ فعل الله بهم ‏{‏بأنهم كذبوا بآياتنا‏}‏ جحدوا الإِيمان بها ‏{‏وكانوا عنها غافلين‏}‏ غير ناظرين فيها، ولا معتبرين بها‏.‏

‏{‏والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة‏}‏ يريد‏:‏ الثَّواب والعقاب ‏{‏حبطت أعمالهم‏}‏ ضلَّ سعيهم ‏{‏هل يجزون إلاَّ ما‏}‏ أَيْ‏:‏ جزاء ما ‏{‏كانوا يعملون‏}‏‏.‏

‏{‏واتخذ قوم موسى من بعده‏}‏ أَيْ‏:‏ من بعد انطلاقه إلى الجبل ‏{‏من حليِّهم‏}‏ التي بقيت في أيديهم ممَّا استعاروه من القبط ‏{‏عجلاً جسداً‏}‏ لحماً ودماً ‏{‏له خوار‏}‏ صوتٌ ‏{‏الم يروا‏}‏ يعني‏:‏ قوم موسى ‏{‏أنه‏}‏ أنَّ العجل ‏{‏لا يكلَِّمهم ولا يهديهم سبيلاً‏}‏ لا يرشدهم إلى دينٍ ‏{‏اتخذوه‏}‏ أَيْ‏:‏ إلهاً ومعبوداً ‏{‏وكانوا ظالمين‏}‏ مشركين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 150‏]‏

‏{‏وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏149‏)‏ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏150‏)‏‏}‏

‏{‏ولما سُقط في أيديهم‏}‏ أَيْ‏:‏ ندموا على عبادتهم العجل ‏{‏ورأوا أنهم قد ضلوا‏}‏ قد ابتلوا بمعصية الله، وهذا كان بعد رجوع موسى إليهم‏.‏

‏{‏ولما رجع موسى إلى قومه غضبان‏}‏ عليهم ‏{‏أسفاً‏}‏ حزيناً؛ لأنَّ الله تعالى فتنهم ‏{‏قال بئس ما خلفتموني من بعدي‏}‏ بئسما عملتم من بعدي حين اتَّخذتم العجل إلهاً، وكفرتم بالله ‏{‏أعجلتم أمر ربكم‏}‏ أسبقتم باتَّخاذ العجل معياد ربِّكم‏؟‏ يعني‏:‏ الأربعين ليلة، وذلك أنَّه كان قد وعدهم أن يأتيهم بعد ثلاثين ليلةَ، فلمَّا لم يأتهم على رأس الثَّلاثين قالوا‏:‏ إنَّه قد مات ‏{‏وألقى الألواح‏}‏ التي فيها التَّوراة ‏{‏وأخذ برأس أخيه‏}‏ بذؤابته وشعره ‏{‏يجرُّه إليه‏}‏ إنكاراً عليه إذ لم يلحقه فَيُعرِّفه ما فعل بنو إسرائيل، كما قال في سورة طه‏:‏ ‏{‏قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألاَّ تتبعنِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فأعلمه هارون أنَّه أَنَّما أقام بين أظهرهم خوفاً على نفسه من القتل، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قال ابن أمَّ‏}‏ وكان أخاه لأبيه وأُمِّه، ولكنَّه قال‏:‏ يا ابنَ أمَّ ليرقِّقه عليه ‏{‏إنَّ القوم استضعفوني‏}‏ استذلُّوني وقهروني ‏{‏وكادوا‏}‏ وهمُّوا أن ‏{‏يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب العجل بضربي وإهانتي ‏{‏ولا تجعلني‏}‏ في موجدتك وعقوبتك لي ‏{‏مع القوم الظالمين‏}‏ الذين عبدوا العجل، فلمَّا عرف براءة هارون ممَّا يوجب العتب عليه، إذا بلغ من إنكاره على عبدة العجل ما خاف على نفسه القتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏151- 156‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏151‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ‏(‏152‏)‏ وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏153‏)‏ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‏(‏154‏)‏ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ ‏(‏155‏)‏ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏156‏)‏‏}‏

‏{‏قال ربِّ اغفر لي‏}‏ ما صنعتُ إلى أخي ‏{‏ولأخي‏}‏ إن قصَّر في الإِنكار ‏{‏وأدخلنا في رحمتك‏}‏ جنَّتك‏.‏

‏{‏إنَّ الذين اتخذوا العجل‏}‏ يعني‏:‏ اليهند الذين كانوا في عصر النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وهم أبناء الذين اتَّخذوا العجل إلهاً، فأضيف إليهم تعييراً لهم بفعل آبائهم ‏{‏سينالهم غضب من ربهم‏}‏ عذابٌ في الآخرة ‏{‏وذلة في الحياة الدنيا‏}‏ وهي الجزية ‏{‏وكذلك نجزي المفترين‏}‏ كذلك أعاقب مَن اتَّخذ إلهاً دوني‏.‏

‏{‏والذين عملوا السيئات‏}‏ الشِّرك ‏{‏ثم تابوا‏}‏ رجعوا عنها ‏{‏وآمنوا‏}‏ صدَّقوا أنَّه لا إله غيري ‏{‏إنَّ ربك من بعدها‏}‏ من بعد التَّوبة ‏{‏لغفور رحيم‏}‏‏.‏

‏{‏ولما سكت‏}‏ ‏[‏سكن‏]‏ ‏{‏عن موسى الغضب أخذ الألواح‏}‏ التي كان ألقاها ‏{‏وفي نسختها‏}‏ وفيما كُتب فيها‏:‏ ‏{‏هدىً‏}‏ من الضَّلالة ‏{‏ورحمة‏}‏ من العذاب ‏{‏للذين هم لربهم يرهبون‏}‏ للخائفين من ربِّهم‏.‏

‏{‏واختار موسى قومه‏}‏ من قومه ‏{‏سبعين رجلاً لميقاتنا‏}‏ أمره الله تعالى أن يأتيه في ناس من بي إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعده لذلك موعداً، فاختار موسى سبعين رجلاً ليعتذروا، فلمَّا سمعوا كلام الله قالوا لموسى‏:‏ أرنا الله جهرةٌ فأخذتهم ‏{‏الرَّجفة‏}‏ وهي الحركة الشَّديدة، فماتوا جميعاً، فقال موسى‏:‏ ‏{‏رب لو شئت أهلكتهم‏}‏ وإيَّاي قبل خروجنا للميقات، وكان بنو إسرائيل يُعاينون ذلك ولا يتَّهمونني، ظنَّ أنَّهم أهلكوا باتِّخاذ أصحابهم العجل، فقال‏:‏ ‏{‏أتهلكنا بما فعل السفهاء منا‏}‏ وإنَّما أُهلكوا لمسألتهم الرُّؤية ‏{‏إن هي إلاَّ فتنتك‏}‏ أَيْ‏:‏ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاء لم تكن إلاَّ فتنتك، أي‏:‏ اختبارك وابتلاؤك أضللتَ بها قوماً فافتتنوا، وعصمتَ آخرين وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏تضل بها مَنْ تشاء وتهدي مَنْ تشاء‏}‏‏.‏

‏{‏واكتب لنا‏}‏ أوجب لنا ‏{‏في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة‏}‏ أَي‏:‏ اقبل وفادتنا، ورُدَّنا بالمغفرة والرَّحمة ‏{‏إنا هُدْنا إليك‏}‏ تبنا ورجعنا إليك بالتَّوبة ‏{‏قال عذابي أصيب به من أشاء‏}‏ آخذ به مَنْ أشاء على الذَّنب اليسير ‏{‏ورحمتي وسعت كلَّ شيء‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ رحمته في الدُّنيا وسعت البرَّ والفاجر، وهي في الآخرة للمؤمنين خاصَّةً، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏فسأكتبها‏}‏ فسأوجبها في الآخرة ‏{‏للذين يتقون‏}‏ يريد‏:‏ أمَّة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏ويؤتون الزكاة‏}‏ صدقات الأموال عند محلها ‏{‏والذين هم بآياتنا يؤمنون‏}‏ يصدِّقون بما أنزل على محمد والنَّبييِّن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏157‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يتبعون الرسول النبيَّ الأميَّ‏}‏ وهو الذي لا يكتب ولا يقرأ، وكانت هذه الخلَّة مؤكِّدة لمعجزته في القرآن ‏{‏الذي يجدونه‏}‏ بنعته وصفته ‏{‏مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل يأمرهم بالمعروف‏}‏ بالتَّوحيد وشرائع الإِسلام ‏{‏وينهاهم عن المنكر‏}‏ عبادة الأوثان وما لا يُعرف في شريعة ‏{‏ويحلُّ لهم الطيبات‏}‏ يعني‏:‏ ما حرَّم عليهم في التَّوراة من لحوم الإِبل، وشحوم الضَّأن ‏{‏ويحرِّم عليهم الخبائث‏}‏ الميتة والدَّم، وما ذُكر في سورة المائدة ‏{‏ويضع عنهم إصرهم‏}‏ ويُسقط عنهم ثقل العهد الذي أُخذ عليهم ‏{‏والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ الشَّدائد التي كانت عليهم، كقطع أثر البول، وقتل النَّفس في التَّوبة، ‏[‏وقطع‏]‏ الأعضاء الخاطئة ‏{‏فالذين آمنوا به‏}‏ من اليهود ‏{‏وعزَّروه‏}‏ ووقَّروه ‏{‏ونصروه‏}‏ على عدوه ‏{‏واتبعوا النور الذي أنزل معه‏}‏ يعني‏:‏ القرآن‏.‏‏.‏ الآيتين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏159- 160‏]‏

‏{‏وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ‏(‏159‏)‏ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق‏}‏ يدعون إلى الحقِّ ‏{‏وبه يعدلون‏}‏ وبالحقِّ يحكمون، وهم قوم وراء الصِّين آمنوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يصل إلينا منهم أحد، ولا منَّا إليهم‏.‏ وقوله‏:‏

‏{‏فانبجست‏}‏ أَي‏:‏ انفجرت، وهذه الآية مفسَّرة في سورة البقرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 165‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏163‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏164‏)‏ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ‏(‏165‏)‏‏}‏

‏{‏واسألهم‏}‏ يعني‏:‏ سؤال توبيخٍ وتقريرٍ ‏{‏عن القرية‏}‏ وهي أيلة ‏{‏التي كانت حاضرة البحر‏}‏ مُجاورته ‏{‏إذ يعدون في السبت‏}‏ يظلمون فيه بصيد السَّمك ‏{‏إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً‏}‏ ظاهرة على الماء ‏{‏ويوم لا يسبتون‏}‏ لا يفعلون ما يفعل في السَّبت‏.‏ يعني‏:‏ سائر الأيام ‏{‏لا تأتيهم‏}‏ الحيتان ‏{‏كذلك‏}‏ مثل هذا الاختبار الشَّديد ‏{‏نبلوهم‏}‏ نختبرهم ‏{‏بما كانوا يفسقون‏}‏ بعصيانهم الله، أَيْ‏:‏ شدَّدتُ عليهم المحنة لفسقهم، ولمَّا فعلوا ذلك صار أهل القرية ثلاث فرق‏:‏ فرقةٌ صادت وأكلت، وفرقةٌ نهت وزجرت، وفرقةٌ أمسكت عن الصَّيد، وهم الذين قال الله تعالى‏:‏

‏{‏وإذ قالت أمة منهم‏}‏ قالوا للفرقة النَّاهية ‏{‏لم تعظون قوماً الله ملهلكهم‏}‏ لاموهم على موعظة قوم يعلمون أنَّهم غير مُقلعين، فقالت الفرقة النَّاهية للذين لاموهم‏:‏ ‏{‏معذرة إلى ربكم‏}‏ أَي‏:‏ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عذراً إلى الله ‏{‏ولعلهم يتقون‏}‏ فيتركون الصَّيد في السَّبت‏.‏

‏{‏فلما نسوا ما ذكروا به‏}‏ تركوا ما وُعظوا به ‏{‏أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا‏}‏ اعتدوا في السَّبت ‏{‏بعذاب بئيس‏}‏ شديدٍ، وهو المسخ جزاءً لفسقهم وخروجهم عن أمر الله‏.‏